الرجل الذي حكم عليه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقتل لأنه قتل
نفساً واعترف والاعتراف سيد الأدلة ولما حان تنفيذ الحكم تذكر الرجل وقال
لأمير المؤمنين : إن لي صبية صغار في البادية وقد تركت لهم وديعة لا يعلم
بها أحد غيري فاتركني حتى أذهب إليهم وأعلمهم بالوديعة ثم أرجع إليك فقال :
من يضمنك؟ فتفرس الرجل في وجوه القوم ونظر لسيدنا أبو ذر وقال : هذا
يضمنني فقال عمر : هل تضمنه ؟ قال : نعم ، قال : على أنه إذا لم يعد تقتل
مكانه إذن قال : على أنه إذا لم يعد أقتل مكانه قال : كم يكفيك يا رجل؟ قال
: ثلاثة أيام وذهب الرجل وفي اليوم الثالث انتظروا مشفقين على مصير أبي ذر
وإذا بهم بعد العصر يرون أسوده يعني شبحاً أسوداً يجري فقالوا : انتظروا
حتى نرى هذه الأسوده لعله هو وإذا بالرجل يأتي وهو يلهث مع أنه سيحكم عليه
بالقتل فتعجب الحاضرون وقال له عمر : ما الذي دعاك للحضور بعد أن أفلّت من
القتل؟ قال: حتى لا يضيع الوفاء بين الناس فطالما وعدت يجب أن توفي فإذا
قلت لأحد : سأحضر إليك اليوم في الساعة الخامسة فيجب أن تلتزم بذلك وإذا لم
تذهب وجب عليك الاعتذار قبلها بساعتين أو بثلاثة لكي لا ينتظرك أحد وإذا
صادف في هذا اليوم أنه قد حدثت لك ظروف معينة ولم تستطع الاعتذار عليك أن
تعتذر بعدها وتخبره : أنا لم أحضر بسبب كذا ولا تتركه معلق
هذا هو
حكم الإسلام الذي حكم به نبي الإسلام وتشريع الإسلام وقرآن الإسلام ورب
الإسلام فقال عمر لأبي ذر : أكنت تعرفه ؟ قال : لا قال : فلم ضمنته وأنت لا
تعرفه ؟ قال : حتى لا تضيع المروءة بين الناس أي ليظل خلق المروءة موجودا
فقال أهل القتيل : عفونا عنه حتى لا يضيع العفو بين الناس وكم في هذه القصة
المشهورة من الدروس والآيات والعبر إنه سحر الأخلاق العالية ولكنا حتى
نسأل : أين من يشكر من أسدى إليه نعمة ؟ والشكر سهل ويسير قال النبي{منْ
صنعَ إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا
أنكم قد كافأتموه}[1] لكن الإنسان في هذا الزمان يصنع المعروف ولا يُشكر بل
على العكس من ذلك يتنكر لمن صنع معه المعروف على الأقل عليه أن يقول لمن
صنع له معروفاً :"بارك الله فيك "أو" جزاك الله عني خير الجزاء " وأشجِّعه
على هذا العمل لكي يعمله مع غيري{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وكما رأينا في القصة السابقة كيف
سرى خلق المروءة من أبى ذر فحول القاتل إلى صدوق وفىِّ يقدم بنفسه مسرعاً
لتقطع عنقه فسرى الخُلقان ( المروءة و الوفاء) في نفوس أهل القتيل فبرَّد
حرَّها و حوله إلى سلام وسماحة أثمرت عفوا في التوِّ والحال إنه سحر
الأخلاق العالية تسري من نفس إلى أخرى فتؤثر فيها وتشجِّعها وتستحثَّها
فالواجب
أن نشجِّع أهل الإحسان لكي يحسِّنوا ويجوِّدوا ويتقنوا حتى تعمَّ أخلاقهم
وتسود لكن أين المروءة الآن؟هل هي في الصدور؟ نحن نريدها في المنظور أين
الصدق؟ أين الشهامة؟ أين المروءة بين أولادنا والذين يرون السيدات الحوامل
أو التي تحمل طفلاً على يديها ولا يقوم ويجلسها أو رجل شيخ كبير متى تأتيه
المروءة؟فإذا كان شاباً ويفتقد المروءة متى إذا تأتيه المروءة ؟ فهذه هي
بضاعة الإسلام التي يصنعها رجال الإسلام وهي ما يصدرونها لجميع الأنام
والتي بها دخل الناس في دين الله أفواجاً وليس بالصواريخ ولا سفن الفضاء
ولا بالمحاصيل الزراعية ولا بالمخترعات الصناعية ولا بالأشياء العصرية ولكن
بالبضاعة القرآنية الصدق اليقين الأمانة المروءة الشهامة الكرم وغيرها من
الأخلاق العالية وهي ما مدح الله بها الأنصار وقال{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
وهذه
هي أوصافهم التي مدحهم بها الله كلها ناتجة عن الحب يحبون من هاجر إليهم
وهو رسول الله هذا الحب هو الذي أوجد{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ}هذا ما مدح به الله أنصار دين الله وأنصار حبيب الله
ومصطفاه وأنصار كتاب الله جلَّ في علاه هل نستطيع أن نصنِّع هذه البضاعة؟
فهذه البضاعة هي التي ستنشر الدين في الخافقين فالغربيون لا يحتاجون منا
المصاحف لأن هم إما الذين يطبعون لنا المصاحف بمطابعهم أو يصدرون لنا آلات
الطباعة وكذلك لا يحتاجون كتبا لتفسير القرآن ولكنهم يحتاجون لمثل هذه
البضاعة التي تكلمنا عنها فهم يريدون أناسا عندهم صدق وأمانة ومروءة
وشهامة{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}فهذه البضاعة هي
التي ستجذبهم لدين الله أفواجاً فهم لا يريدون طلقاء اللسان أو شرائط
الكاسيت أو من يلبسون بدل هيلد أو جلابيباً من الكشمير لكن يريدون منا أن
نلبس العفو ونلبس الصفح ونلبس الكرم ونلبس الجود ونلبس هذه الأخلاق الإلهية
فإذا لبسناها ونشرناها أتى الفتح و دخل الناس في دين الله أفواجا{إِذَا
جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقد روى أنه في عصر الخليفة عمر بن عبد
العزيز أرسل قائده قتيبة بن مسلم الباهلي ليفتح جنوب روسيا الآن " سمرقند "
فدخلها فاتحاً ولكن قبل أن يدعوا أهلها إلى دين الله وبعد أن دخل هو وجيشه
المدينة إذا وأهل البلدة يقدمون مظلمة إلى قاضي المسلمين الذي معه وتحت
إمرته والذي عيَّنه الخليفة ليكون في حملته فحكم القاضي على القائد أن يخرج
من المدينة هو وجنده ثم ينفذ سنة رسول الله فيدعوهم أولا إلى الإيمان فإن
أبوا فالجزية فإن أبوا فالحرب
فلما امتثل القائد لأمر القاضي وأمر
جنده أن يخرجوا من المدينة احتراماً للقضاء في الإسلام فما كان من أهل
البلدة إلا أن أعلنوا دخولهم في الإسلام أجمعين لأنهم انبهروا بالعدالة
التي جعلها الله في هذا الدين أما الجزية في الإسلام فهي مبلغ مقدور عليه
يدفعه غير المسلمين الذين يعشون في ديار الإسلام لبيت مال المسلمين مقابل
أن يقاتل جند الإسلام عنهم ويدفعوا عنهم صولة عدوهم فهم يجلسون في بيوتهم
مرتاحين والذي يدافع عنهم أمام كل عدو لهم جند الموحدين جيش الإسلام واسمع
للعجب فقد ورد أن أبو عبيدة بن الجراح لما دخل مدينة حمص في بلاد الشام
وكان أهلها قد ارتضوا على دفع الجزية وعندما علم أبو عبيدة أن الروم جاءوا
بجيش قوامه ستمائة ألف ويحتاج ذلك أن يجمع صفوف المسلمين في بلاد الشام
أجمعين في مكان واحد وهو اليرموك ولا يستطيع أن يترك حامية تدافع عن البلدة
فاستدعى زعمائها قال لهم : هذه جزيتكم وسلَّمها لهم وقال : لقد أخذناها
منكم لندافع عنكم والآن لا أستطيع أن أدافع عنكم فخذوا جزيتكم وادفعوا عن
أنفسكم فقالوا : لا نريد غيركم قال: إن الروم على دينكم قالوا: لا نريدهم
فقد وجدنا معكم العدل والسماحة والمساواة التي لم نعهدها عندهم فلما أصرَّ
على رأيه أخذوا في الدعاء للمسلمين قائلين : نصركم الله وردكم إلينا هزمهم
الله ودحرهم وأخذوا يبتهلون إلى الله أن ينتصر المسلمين ويرجعوا إليهم لما
وجدوا من عدلهم وسماحتهم وتمسكهم بأخلاق الله وكتاب الله وسنة حبيب الله
ومصطفاه
(1) عن عبد الله بن عمرو صحيح أبى داوود وأوله : من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه
منقول من كتاب [واجب المسلمين المعاصرين نحو رسول الله]